طواف القدوم جعل الله تعالى الكعبة المُشرَّفة مكاناً يقصده الحُجّاج والمُعتمِرون من بِقاع الأرض كلّها؛ لأداء فريضة الحجّ في أشهُر الحجّ الثلاثة، ولأداء شعيرة العمرة بغية التقرُّب من الله تعالى في باقي أشهُر السّنة، وقد جعل الله لبيته الحرام أحكاماً ومناسك خاصّةً تختلف عن باقي الشّعائر والعبادات الدينيّة، وتتمثّل تلك المناسك والشّعائر بأن يفعل الحاجّ أو المُعتمِر بعض الأعمال فور وصوله إلى الكعبة المُشرَّفة.
أمّا أصل اشتقاق أعمال الحجّ والعمرة فيردُّه أهل العلم إلى ما حدث في فترة نبوّة سيّدنا إبراهيم -عليه السّلام- بعد أن أقام هو وزوجه هاجر وابنه إسماعيل في مكّة المكرمة؛ حيث حدثت لهم عدّة أحداث اشتُهِر أمرها لدى النّاس، فجاءت مناسك الحجّ والعُمرة؛ تخليداً لما حدث لإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام، وكان من بين تلك المناسك الطّواف؛ فإذا وصل الحاجّ أو المُعتمِر الكعبة المُشرَّفة فإنّه يشرع ابتداءً بالطّواف حول بيت الله الكعبة المُشرَّفة، فما هو ذلك الطّواف، وما حُكمه، وما مدى مشروعيّته وسببها، وما هي كيفيّته؟ ذلك ما ستبحثه هذه المقالة بتوفيق الله.
معنى طواف القدوم لطواف القدوم معانٍ لغويّة، وأخرى اصطلاحيّة، وبيانها فيما يأتي: الطّواف لُغةً: مصدر طافَ يَطُوف طَوَافاً، وطَوَفاناً، وطَوْفاً، وتطوافاً، فهو طائِف، وطَافَ البِلاَدَ: أي جَالَ فِيهَا، وطافَ حَوْلَ الدَّارِ: أي دَارَ حَوْلَهَا، والطَّائِفُ: هو العاسُّ الذي يدورُ حَوْل البيوتِ ليحرُسَهَا خاصّةً في الليل، وهو كذلك ما كان مثل الخَيال، يُصيب الشّخص، وطواف القُدوم هو الذي يقوم به الحاجّ أو المُعتمِر عند دخوله المسجد الحرام في مكّة المُكرَّمة.
[١]
الطّواف اصطِلاحاً: يُقصَد بالطّواف في الشّرع أن يطوف الحاجّ أو المُعتمِر حول الكعبة المُشرَّفة سبعة أشواطٍ بنيّة وقصد الطّواف على الهيئة المخصوصة التي بيّنتها الشّريعة.
[٢]
هيئة طواف القدوم إذا دخل الحاجّ أو المُعتمِر المسجد الحرام وأراد الطّواف بالكعبة، فعليه أن يتوجّه إلى الحجر الأسود مُباشرةً؛ حيث يبتدئ منه الطّواف، ويقع موضع الحجر الأسود في الرُّكن الذي يأتي بعد باب الكعبة مباشرةً من الجهة الشرقيّة، فيبتدئ بالطّواف منه بعد أن يُقبِّله إن تمكَّن من ذلك، وإلا توجّه إليه بجسده، وأشار إليه بيده إن كان بينه وبين الحجر حائلٌ؛ كشدّة زحامٍ أو نحو ذلك، وعندما يشرع بالطّواف يستقبل بوجهه الكعبة ويتوجّه إليها مائلاً بجسده؛ بحيث يصير الحجر عن يمينه، ثمّ ينوي أن يشرع بالطّواف بنيّة التقرُّب إلى الله تعالى، ثمّ يمشي وهو يستقبل الحجر مُتّجهاً إلى اليمين حتّى يتعدّى الحجر الأسود، فإذا تعدّاه عدَّل من مشيته وتوجه نحو جهة سيره جاعلاً يساره إلى الكعبة ويمينه إلى خارجها.
[٢]
ثمّ يمشي الحاجّ أو المُعتمِر على هذا النّحو طائفاً حول الكعبة، فإذا وصل مُحاذاة المُلتزم -وهو جزءٌ من الكعبة يقع بين الحجر الأسود وباب الكعبة- فإن وصل إليه التزمه، ودعا بما يشاء من الدُّعاء، ثمّ يُكمِل الطّواف على النّحو نفسه حتّى يصل إلى الركن الثاني الذي يلي الحجر الأسود، ثمّ يمرّ خلف حِجر إسماعيل، ويمشي حوله حتّى يصل إلى الركن الثالث، ثمّ يُكمل الطّواف حول الكعبة إلى أن ينتهي إلى الركن الرّابع الذي يُسمّى بالرّكن اليماني، ثمّ يمرّ منه حتّى يصل إلى الحجر الأسود، ويكون بذلك قد أنهى الشّوط الأوّل، ثمّ يطوف على ذلك النّحو حتى يُتِمّ سبعة أشواط.
[٢]
حُكم طواف القدوم حُكم طواف القدوم في العمرة يختلف حكم طواف القدوم في العمرة عن حكمه في الحجّ؛ فقد اتَّفق العلماء على أنَّ طواف القدوم ركنٌ من أركان العمرة، فلا تصحُّ عمرة مَن لم يطُفْ بالبيت حالَ قدومه إلى مكّة، فينبغي على المُعتمِر المُبادَرة إلى الطّواف حول الكعبة حتّى تقع العمرة منه صحيحةً مقبولةً، فإن أدّى المُعتمِر مناسك العمرة كاملةً، ثمّ ترك الطّواف لم تجزئ عمرته، وقد استدلَّ العلماء على ركنيّة الطّواف بالعمرة ووجوبه فيها بقول الله سبحانه وتعالى: (وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ).
[٣][٤][٥]
ويرى الإمام أبو حنيفة أنّ الطّواف هو الرّكن المُنفَرد في العمرة، وأنّ باقي مناسك العمرة إنّما هي واجبات لها لا أركان، كما يرى أبو حنيفة ومَن وافقه أنّ الرُّكن في الطّواف في العمرة معظم الطّواف؛ فلا يجب على المُعتمِر أن يُتمَّ سبعة أشواط، بل يرى أنّه إن أتمَّ معظم الطّواف أجزئ ذلك وصحّت عمرته، ولكنّ التمّام أَوْلى.
[٤][٥]
حكم طواف القدوم في الحجّ اختلف العلماء في حُكم طواف القدوم في الحجّ على قولين، هُما:
[٢]
يرى المالكيّة أنّ طواف القدوم في الحجّ واجب، وأنَّ من أدّى الحجّ ولم يطُف بالبيت طواف القدوم فإنّ عليه إراقة دم هَدْيٍ لقاءَ ما ترك من الطّواف، وقد استدلَّ المالكيّة على ما ذهبوا إليه بقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجّ: (وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ)،
[٣]
فيكون الطّواف واجباً على الحاجّ، ويجب عليه الإتيان به. ذهب جمهور العلماء إلى القول بأنّ طواف القدوم في الحجّ سُنّةٌ مُؤكَّدة؛ فينبغي على الحاجّ الإتيان به استِحباباً، ولكن إن لم يأت به فإنّ حجّه صحيح وليس عليه شيءٌ شرعاً، ولا حتّى إراقة دم هَدْيٍ. أدعية طواف القدوم يُشرع للحاجّ والمُعتمِر إذا بدأ الطّواف حول الكعبة بعد دخوله إليها أن ينشغل أثناء طوافه ببعض الأدعية والأذكار التي جاء فيها النصّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث ثبت أنّ المُصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- كان يُردّد بعضها أثناء الطّواف، وقد وردت أدعية وأذكار كثيرة ينبغي على الحاجّ والمُعتمِر أثناء طوافه ذِكرها، إلا أنّ من هذه الأذكار والأدعية ما يصحُّ نقله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّا أغلبها فلم يثبت عنه عليه الصّلاة والسّلام، وينبغي على المسلم في ذلك أن يمتثل فعلَ النبيّ اقتداءً به، فإن أحبَّ أن يُردِّد شيئاً من الأدعية الخاصّة به أو بزمانه ومكانه فلا بأس، دونَ أن ينسب فعلها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث يُعدّ ذلك من الكذب عليه، وهو ممّا لا تُحمَد عُقباه.
[٦]
أمّا ما ورد من أدعية الطّواف وأذكاره عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فمنها ما يأتي:[٦] يبتدئ المُعتمِر طوافه بالتّكبير بعد أن يُشير إلى الحجر الأسود؛ حيث يروي عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه: (أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- طافَ بالبيتِ وهو على بعيرٍ، كلَّما أَتَى على الرُّكْنِ أشارَ إليهِ بشيٍء في يدهِ وكَبَّرَ)،
[٧]
والمقصود بالرُّكن هنا هو الرّكن الذي فيه الحجر الأسود، وكما يرى بعض العلماء يُستحَبّ للحاجّ أو المُعتمِر إذا استلم الحجر الأسود ليقبّله وقت شروعه في الطّواف أن يقول: (بسمِ اللهِ، واللهُ أكبرُ، اللهُمّ إيماناً بِكَ وتصديقاً بِكتابِك، ووفاءً بعهدِك، واتّباعاً لسُنّة نبيّك صلّى الله عليه وسلّم)، ويُكرّر هذا الورد نفسه كلّما وصل إلى محاذاة الحجر الأسود في الأشواط السّبعة، بعد أن يُشير إلى الحجر الأسود، أو يستلمه بالتّقبيل إن استطاع. يُسَنّ للحاجّ والمُعتمِر أن يقول أثناء الطّواف: (اللهُمّ اغفرْ وارحمْ، واعفُ عمّا تعلَم، وأنتَ الأعزُّ الأكرَمُ، اللهُمَّ ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النّار)، كما رُوي عن الإمام الشافعيّ -رحمه الله- أنّه قال في أحبِّ ما ينبغي للحاجّ والمُعتمِر قوله أثناء الطّواف: (اللَّهمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسنةً، وفي الآخرةِ حَسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ).
[٨]
إذا وصل الحاجّ في الموضع ما بين الرُّكن اليمانيّ والحجر الأسود، فإنّه يُسَنُّ له أن يقول: (ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسنةً، وفي الآخرةِ حَسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ)
0 التعليقات:
إرسال تعليق